"طوفان الأقصى" يكتسح صناديق الاقتراع- فوز تاريخي للإسلاميين بالأردن

إن تبوّء حزب جبهة العمل الإسلامي صدارة قائمة الفائزين في الانتخابات النيابية الأردنية لعام 2024، يُعدّ أمرًا متوقعًا، رغم أن بعض "المحللين" و"خبراء الرصد" أبدوا تشكيكًا في إمكانية حدوث ذلك، ومنحوا أحزابًا حديثة النشأة الأفضلية في السباق الانتخابي، مُظهرين بذلك أنهم "مُصنّعون" تمامًا كالأحزاب التي توقعوا لها اكتساح الساحة.
لكن الفوز الساحق أو "التسونامي" الذي حققه "الذراع السياسي" لجماعة الإخوان المسلمين، تجاوز كل التوقعات، سواء توقعات الأصدقاء والمؤيدين أو الخصوم، وأعتقد أنه فاجأ الحزب والجماعة نفسها.
في الانتخابات السابقة، لم يحصد مرشحو الحزب في مختلف الدوائر الانتخابية بالمملكة، سواء الفائزون أو الخاسرون، سوى أقل من 90 ألف صوت. وفي الانتخابات التي سبقتها، حصلوا على ما يزيد قليلًا عن 180 ألف صوت. أما هذه المرة، فقد حصدت قوائم الحزب الوطنية ما يقارب نصف مليون صوت، بواقع 31 مقعدًا، وهي نتيجة تاريخية لم تحققها الجماعة طوال ثمانية عقود من المشاركة المتواصلة في الانتخابات العامة، باستثناء بعض الانقطاعات والمقاطعات المحدودة التي كانت بمثابة الاستثناء.
أسباب "التسونامي" وسياقاته
في سياق تحليل الأسباب الجوهرية وراء هذا الفوز العريض للجماعة الإسلامية، رغم المضايقات وحملات التشويه والضغوط، يتجه المراقبون الموضوعيون والمنصفون وجهات مختلفة، مع استثناء ما يُطرح من قبل بعض الكتاب الذين يصفهم الرأي العام الأردني بـ "كُتّاب التدخل السريع".
أولًا، الجماعة ليست كيانًا غريبًا على الأردن والأردنيين، بل هي حركة تعود جذورها إلى عام الاستقلال (1946)، وسبق لها أن فازت بأكثر من ربع مقاعد أول مجلس نيابي يُنتخب بعد استئناف الحياة الحزبية والبرلمانية في الأردن عام (1989).
وعلى مدار مسيرتها النيابية، شهدت الجماعة لحظات صعود وهبوط، ومشاركات ومقاطعات، وتراوح رصيدها التصويتي بين 100 و200 ألف صوت، تزيد أو تنقص قليلًا. هناك شبه إجماع بين الأردنيين، سواء المؤيدين أو المعارضين، على أنها أكبر أحزاب المعارضة والموالاة على حد سواء، وأنها الأكثر تنظيمًا وانضباطًا، وأنها الحزب الوحيد الذي يمتلك "بنية تحتية" اجتماعية واقتصادية وتربوية ودعوية وإغاثية واسعة النطاق، حتى بعد أن سيطرت الحكومة على "جمعية المركز الإسلامي الأردني"، الذراع الاجتماعية والاقتصادية الأهم والأكبر للجماعة، في عام 2007.
أخيرًا، واكب الحزب والجماعة الحرب الإسرائيلية على غزة منذ بدايتها وحتى فترة "الصمت الانتخابي". توقفت الحملات وأغلقت مراكز الاقتراع أبوابها، لكن هتافات الحركة الإسلامية في الشوارع والميادين لم تهدأ، ولا أعتقد أنها ستهدأ حتى تنتهي حرب الفاشيين الجدد على غزة.
لم يقدم أي حزب آخر ما قدمه حزب جبهة العمل الإسلامي في هذا المجال. لم يقتنع الأردنيون بمقولة "كلنا غزة"، بل ميز الرأي العام بين حزب منخرط بكل طاقته في حملات النصرة والتضامن، مستخدمًا كل وسائل الحشد والتعبئة المتاحة، وبين أحزاب أخرى اكتفت بوقفات رمزية متباعدة، وشعارات مصممة خصيصًا لتتماشى مع الموقف الحكومي وتدافع عنه، وغالبًا بهدف عدم ترك الساحة خالية للإسلاميين. هذه الملاحظة تجسدت خلال عشرات اللقاءات والندوات التي شارك فيها كاتب هذه السطور شخصيًا.
لقد انتصر الإسلاميون لغزة وللمقاومة التي واجهت جيش الاحتلال، والأردنيون بدورهم انتصروا لهم في صناديق الاقتراع. انتصروا لغزة التي انتصرت لهم في يوم الاقتراع الكبير، الذي شهد الجميع، سواء المعارضة أو الموالاة، بنزاهته وشفافيته. هذا التطور يمثل علامة فارقة في العمليتين الانتخابية والسياسية الأردنيتين، وسيكون له تبعات، أقلها البدء في استعادة الثقة بـ "شرف" صناديق الاقتراع.
حزب جبهة العمل الإسلامي حقق فوزًا ساحقًا في انتخابات 2024، بحصوله على نصف مليون صوت و31 مقعدًا، وهي نتيجة غير مسبوقة في تاريخ الجماعة الممتد لثمانية عقود من النشاط السياسي
وبين المقامين: الأول والأخير
يمكن إجمال عدة أسباب ساهمت مجتمعة في تحقيق الفوز الكاسح للإسلاميين في الانتخابات، من بينها "تصويت النكاية". فبعض المصوتين لقوائم الإخوان ليسوا بالضرورة من أنصار الحزب أو مريدي الحركة الإسلامية، بل منهم شيوعيون ويساريون وليبراليون وقوميون سابقون، ومسيحيون تفجرت مشاعرهم الوطنية والقومية والإنسانية النبيلة، جراء المجازر اليومية ضد سكان القطاع المحاصر، والتي لم تفرق بين فلسطيني مسيحي ومسلم، إسلامي وعلماني، مؤيد لحماس أو معارض لها.
ومن بين هذه الأسباب أيضًا، الضعف والتآكل الذي أصاب الأحزاب "التاريخية"، القومية واليسارية، التي عجزت مجتمعة، على اختلاف أيديولوجياتها وتوجهاتها، عن تجاوز العتبة اللازمة لدخول البرلمان. أما الفائز الوحيد من هذا التيار اليساري (البرتقالي)، فقد وصل بفضل الصوت العشائري والقوائم المحلية. هذه الهزيمة لم تكن مفاجئة على الإطلاق، بل هي هزيمة متكررة، تم رصدها في انتخابات سابقة، محلية وبرلمانية، وكانت النتائج محبطة للغاية ولا تليق بتاريخها النضالي العريق.
لم تتعلم هذه الأحزاب من انهيار مرجعياتها في موسكو ودول المعسكر الاشتراكي، ولا من الانكسارات في عواصم "القومية العربية" المركزية، كما أنها لم تستخلص العبر من إخفاقاتها المتكررة. لم تُجرِ تغييرًا حقيقيًا في خطابها، ولا مراجعات معمقة في مرجعياتها، ولم تُدخل التحديث والتطوير المطلوبين في هياكلها التنظيمية وأساليب عملها. ولم يتقدم أي من قادتها باستقالته اعتذارًا عن الهزائم السابقة والحالية. لولا استقالة سمر دودين بعد فشل حزبها و"التيار الديمقراطي" الذي قادته في الانتخابات الأخيرة، لقلنا إن كلمة "استقالة" غير موجودة في قواميس هذه الأحزاب، وأن القدر وحده، من خلال الموت أو المرض أو التقدم في العمر، هو الدافع الوحيد للتغيير والتجديد.
أما الأحزاب الجديدة، وبعضها ليس جديدًا تمامًا، إذ مر على تأسيسه ربع قرن أو يزيد قليلًا، وبعضها الآخر حديث العهد بالعمل الحزبي والشعبي، فقد تأسس في ضوء مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية، وإقرار قانوني الأحزاب والانتخابات قبل عامين. هذه الأحزاب، التي وُصفت بأنها مُصنّعة وشُكّلت بتوجيه وتحفيز من جهات معينة، حظيت برعاية خاصة من تلك الجهات. ويبلغ عددها نحو نصف دزينة من الأحزاب، ويصعب إيجاد مبررات موضوعية وفكرية واجتماعية لتعددها، إذ ارتبطت غالبيتها برموز معروفة من "بيروقراطية الدولة الأردنية"، وبعضها كان أحزاب وجهاء وأعيان، وثبت بشكل قاطع أنها غير متجذرة في أعماق البيئة الاجتماعية والسياسية الأردنية، رغم حملاتها الدعائية والانتخابية المكلفة. كما ثبت عجزها عن بلورة "معنى" خاص بها، يحفز المواطنين على اختيارها والتصويت لها.
وبإجراء مقارنة بسيطة بين ما حصلت عليه الأحزاب السياسية من مقاعد، نلاحظ أن غالبية مقاعد حزب جبهة العمل الإسلامي جاءت من "القائمة الحزبية الوطنية"، أي من التصويت السياسي، وأن قائمته الوطنية حظيت بعشرات الآلاف من الأصوات من دوائر لم يكن للحزب مرشحون وقوائم محلية فيها. القانون الانتخابي، كما هو معلوم، أتاح للمواطن الأردني اختيار مرشح منطقته وعشيرته ودائرته الضيقة، وغالبًا لأسباب خدمية، ولكنه وفر له صوتًا ثانيًا لاختيار الحزب الذي يريده. النتيجة التي يمكن استخلاصها هي أن معظم نواب حزب جبهة العمل الإسلامي، وصلوا إلى البرلمان بتصويت سياسي بامتياز.
أما الأحزاب الأخرى، فقد كان حصادها "السياسي" في القوائم العامة ضئيلًا، إذ حصل أكثرها على أربعة مقاعد على الأكثر، فيما ستزداد كتلها النيابية المرتقبة مع مرور الأيام بأعداد من النواب الذين أوصلهم الصوت العشائري والعائلي. وسنشهد قريبًا "بازار" استقطابات لنواب وصلوا إلى البرلمان دون خلفية سياسية أو حزبية.
الأردنيون انتصروا للإسلاميين في صناديق الاقتراع بعدما تصدر الحزب جهود التضامن مع غزة، في حين عجزت الأحزاب الأخرى عن مجاراة قوته الشعبية والتنظيمية
ولكن مما يجدر ذكره، أنه إذا استمرت عملية التحديث السياسي كما هو مخطط لها، فإن المستقبل سيكون حليف "التصويت السياسي". الحزب الذي يرغب في الحصول على تمثيل أكبر في البرلمان، عليه أن يطور هوية فكرية وسياسية وبرنامجية مقنعة للأردنيين، لأن السنوات العشر القادمة ستكون لصالح الأحزاب كقنوات للمشاركة والتمثيل، بعد أن اعتمد الأردنيون لأكثر من ثلاثة عقود على العشيرة والعائلة كقنوات للتمثيل.
أعلنت الهيئة المستقلة للانتخاب عن وجود 104 نواب حزبيين في "البرلمان العشرين" من أصل 138 نائبًا. وأعتقد أن أكثر من نصف هؤلاء الحزبيين المسجلين لدى الهيئة كحزبيين، قد خاضوا المعركة الانتخابية بأدواتهم القديمة، واعتمدوا على الصوت العشائري والعائلي، ولم تكن هويتهم الحزبية هي السبب في جذب أصوات الناخبين لقوائمهم. هذا الوضع لن يستمر في الانتخابات المقبلة، ومن مصلحة الأحزاب أن تتأمل في دروس انتخابات 2024، قبل أن تحل الانتخابات القادمة وهي تدور في نفس الدائرة المغلقة.
والنتيجة
بغض النظر عن الأسباب والعوامل الكامنة وراء الفوز غير المسبوق للإسلاميين في الأردن في انتخابات 2024، وبغض النظر عن أهمية كل سبب وعامل منها في تحقيق هذه المفاجأة، فإن الأمر المؤكد هو أن "بركات طوفان الأقصى" قد حلت في صناديق اقتراع الحركة الإسلامية.
نصف الكأس الممتلئ
المفاجأة التي أسكتت الكثيرين، سرعان ما بدأت تتلاشى، مع شروع العقلاء في البلاد بالنظر إلى النصف الممتلئ من الكأس، بدلًا من الاكتفاء بانتقاد قانون الانتخاب، واتهام الحركة الإسلامية باستغلال الحرب على غزة. رأى البعض في هذا النصف الممتلئ ما سيمكن الأردن داخليًا من تهدئة أجواء الاحتقان السياسي وتعزيز الثقة بالعملية السياسية، وخارجيًا، إذا أحسنت الدبلوماسية استثمار هذه النتائج، لمواجهة الضغوط والتحديات التي تواجه البلاد على جبهة الحرب الفلسطينية الإسرائيلية الدائرة في غزة، والمنتشرة في مدن وبلدات الضفة الغربية. يمكن الاستناد إلى نتائج الانتخابات لإظهار غضب الشارع الأردني كورقة ضغط مضادة، يمكن من خلالها تحييد الضغوط الخارجية والتغلب عليها.
ويمكن للانتخابات أن تكون رسالة أردنية قوية للأشقاء أيضًا، الذين أداروا ظهورهم للأردن، وتركوه يواجه واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية التي مر بها: فقر وبطالة وتباطؤ في النمو وارتفاع في المديونية وعجز في الموازنة. رسالة فحواها: بدلًا من التحريض على الإخوان المسلمين والحث على استئصالهم، تفضلوا بدعم الدولة الأردنية للوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، فهذا هو الطريق الأمثل والأسهل لتعزيز المناعة المجتمعية، وتقوية التيارات الأضعف المحسوبة على الحكم، بدلًا من إضعاف التيار الأقوى المعارض للحكومات.
إن فلسفة إضعاف القوي (والذي غالبًا ما يكون إسلاميًا) قد فشلت وكانت سببًا في الخراب في العديد من الدول العربية والإسلامية. البديل هو تقوية الأضعف من خصومهم المنافسين، من خلال تحفيز التنمية ومعالجة تداعيات الأزمة الاقتصادية التي يعاني منها الأردنيون، وفتح آفاق سياسية لا رجعة فيها، على طريق الإصلاح والتحديث والتحول الديمقراطي.
يبقى أن نجاح الهيئة المستقلة في إدارة انتخابات نزيهة وشفافة، على الأقل في حدود صلاحياتها، هو نجاح يمكن البناء عليه، مع التأكيد على ضرورة تفعيل مبدأ "حياد الدولة" ووقوفها على مسافة واحدة من جميع الأحزاب، والتوقف عن ممارسة "لعبة الهندسات" الحزبية أو الانتخابية. أحد دروس الانتخابات الأخيرة هو أن الكيمياء أقوى من الهندسة، فالانسجام بين الحزب وقواعده الانتخابية أقوى بكثير من أي "هندسات" أو عمليات إنزال جوي، سواء بالقفز الحر أو بالمظلات.